فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم:
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب وأعرف الناس به: أشدهم له تعظيما وإجلالا وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته ولا عرفه حق معرفته ولا وصفه حق صفته وأقوالهم تدور على هذا فقال تعالى: {ما لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} [نوح: 13] قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته وقال الكلبي: لا تخافون لله عظمة قال البغوي: والرجاء بمعنى المخوف والوقار العظمة اسم من التوقير وهو التعظيم وقال الحسن: لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة وقال ابن كيسان: لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرا وروح العبادة: هو الإجلال والمحبة فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد والله سبحانه أعلم.
فصل:
قال صاحب المنازل رحمه الله: التعظيم: معرفة العظمة مع التذلل لها وهو على ثلاث درجات الأولى: تعظيم الأمر والنهي وهو أن لا يعارضا بترخص جاف ولا يعرضا لتشدد غال ولا يحملا على علة توهن الانقياد هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي أحدها: الترخص الذي يجفو بصاحبه عن كمال الامتثال والثاني: الغلو الذي يتجاوز بصاحبه حدود الأمر والنهي فالأول: تفريط والثاني إفراط وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإضاعة وإما إلى إفراط وغلو ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه كالوادي بين جبلين والهدى بين ضلالتين والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له فالغالي فيهمضيع له هذا بتقصيره عن الحد وهذا بتجاوزه الحد وقد نهى الله عن الغلو بقوله: {يا أهْل الْكِتابِ لا تغْلُوا فِي دِينِكُمْ غيْر الْحقِّ} [المائدة: 77] والغلو نوعان نوع يخرجه عن كونه مطيعا كمن زاد في الصلاة ركعة أو صام الدهر مع أيام النهي أو رمي الجمرات بالصخرات الكبار التي يرمى بها في المنجنيق أو سعى بين الصفا والمروة عشرا أو نحو ذلك عمدا وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار كقيام الليل كله وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها وقال: «ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد» رواهما البخاري وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثا وهم المتعمقون المتشددون وفي صحيح البخاري عنه: «عليكم من الأعمال ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا» وفي السنن عنه أنه قال: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغضن إلى نفسك عبادة الله» أو كما قال وقوله: ولا يحملا على علة توهن الانقياد يريد: أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليهما بالإبطال كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بايقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه كما قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ** ولكن لأسباب تضمنها السكر

إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ** فسيان ماء في الزجاجة أو خمر

وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معللا بالإسكار فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر ومن العلل التي توهن الانقياد: أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور وفي بعض الآثار القديمة: يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا ولكن قولوا: بم أمر ربنا.
وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادا للأمر وأقل درجاته: أن يضعف انقياده له وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلا وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده وكل هذا من ترك تعظم الأمر والنهي وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا الله فكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهى وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: تعظيم الحكم: أن يبغي له عوج أو يدافع بعلم أو يرضى بعوض الدرجة الأولى: تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي وهذه الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري وهو الذي يخصه المصنف باسم الحكم وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه الكوني به فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء: أحدها: أن لا يبغي له عوج أي يطلب له عوج أو يرى فيه عوج بل يراه كله مستقيما لأنه صادر عن عين الحكمة فلا عوج فيه وهذا موضع أشكل على الناس جدا فقال نفاة القدر: ما في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم التفاوت والعوج فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره.
وقالت: فرقة تقابلهم: بل هي من خلق الرحمن وقدره فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم والطائفتان ضالتان منحرفتان عن الهدى وهذه الثانية أشد انحرافا لأنها جعلت الكفر والمعاصي طريقا مستقيما لا عوج فيه وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحكم والمحكوم به: هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه وقول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي فالقضاء فعله ومشيئته وما قام به والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه وهو المشتمل على الخير والشر والعوج والاستقامة فقضاؤه كله حق والمقضي: منه حق ومنه باطل وقضاؤه كله عدل والمقضي: منه عدل ومنه جور وقضاؤه كله مرضي والمقضي: منه مرضي ومنه مسخوط وقضاؤه كله مسالم والمقضي: منه ما يسالم ومنه ما يحارب وهذا أصل عظيم تجب مراعاته وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت والمنحرف عنه: إما جاهل للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولابد وعلى هذا يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله: أن لا يبتغي للحكم عوج وأما قوله: أو يدفع بعلم فأشكل من الأول فإن العلم مقدم على القدر وحاكم عليه ولا يجوز دفع العلم بالحكم فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال: قضاء الله وقدره وحكمه الكوني لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية وإن كان المرادان قد يتدافعان ويتعارضان لكن من تعظيم كل منهما: أن لا يدافع بالآخر ولا يعارض فإنهما وصفان للرب تعالى وأوصافه لا يدافع بعضها ببعض وإن استعيذ ببعضها من بعض فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعلم الخلق به: «أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك» فرضاه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله ولا يدفعه وإنما يدفع تعلقه بالمستعيذ وتعلقه بأعدائه باق غير زائل فهكذا أمره وقدره سواء فإن أمره لا يبطل قدره ولا قدره يبطل أمره ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه وهو أيضا من قضائه فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره فلم يدفع العلم الحكم بل المحكوم به والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله ولا دفع مقدور الله بقدر الله وأمره وأما قوله: ولا يرضى بعوض أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى حد لا يطلب معه عوضا ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه وعدم تصرفه في نفسه وأن المتصرف فيه حقا هو مالكه الحق فهو الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم وذهل عنه وذلك مناف لتعظيمه فمن تعظيمه: أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعاوض عليه فهذا الذي يمكن حمل كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر والله سبحانه أعلم.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: تعظيم الحق سبحانه وهو أن لا يجعل دونه سببا ولا يرى عليه حقا أو ينازع له اختيارا هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه صاحب الخلق والأمر والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقضيه والأولى: تتضمن تعظيم أمره وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء:
إحداها: أن لاتجعل دونه سببا أي لاتجعل للوصلة إليه سببا غيره بل هو الذي يوصل عبده إليه فلا يوصل إلى الله إلا الله ولا يقرب إليه سواه ولا يدنى إليه غيره ولا يتوصل إلى رضاه إلا به فما دل على الله إلا الله ولا هدى إليه سواه ولا أدنى إليه غيره فإنه سبحانه هو الذي جعل السبب سببا فالسبب وسببيته وإيصاله: كله خلقه وفعله الثاني: أن لايرى عليه حقا أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا لغيرك حقا على الله بل الحق لله على خلقه وفي أثر إسرائيلي: أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك فأوحى الله إليه: يا داود أي حق لآبائك علي ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم وأما حقوق العبيد على الله تعالى: من اثباته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته لسائلهم: فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه لاأنها حقوق أحقوها هم عليه فالحق في الحقيقة لله على عبده وحق العبد عليه هو ما اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه هذا قول أهل التوفيق والبصائر وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارا والله سبحانه أعلم وأما قوله: ولا ينازع له اختيارا أى إذا رأيت الله عز وجل قد اختار لك أو لغيرك شيئا إما بأمره ودينه وإما بقضائه وقدره فلا تنازع اختياره بل ارض باختيار ما اختاره لك فإن ذلك من تعظيمه سبحانه ولا يرد عليه قدره عليه من المعاصي فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له فمنازعتها غير اختياره من عبده وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه والله أعلم اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الرجاء:
رجا البئْرِ والسّماءِ وغيرهما: جانبهما.
والجمع أرْجاءٌ.
والرجاءُ: الاستبشار بوجود فضل الربِّ تعالى، والارتياحُ لمطالعة كرمه، وقيل: هو الثِّقة بوجود الربّ.
وقيل: الرّجاءُ ظن يقتضى حصول ما فيه مسرّة.
وهو من أجلِّ منازل السّالكين وأعلاها وأشرفها، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال: {لّقدْ كان لكُمْ فِي رسُولِ اللّهِ أُسْوةٌ حسنةٌ لِّمن كان يرْجُو اللّه والْيوْم الآخِر}.
وأخبر تعالى عن خواصّ عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إِلى الله أنهم كانوا راجين له خائفين منه فقال: {قُلِ ادْعُواْ الّذِين زعمْتُم مِّن دُونِهِ فلا يمْلِكُون كشْف الضُّرِّ عنْكُمْ ولا تحْوِيلا أُولائِك الّذِين يدْعُون يبْتغُون إِلى ربِّهِمُ الْوسِيلة أيُّهُمْ أقْربُ ويرْجُون رحْمتهُ ويخافُون عذابهُ إِنّ عذاب ربِّك كان محْذُورا}، وفى الحديث الصّحيح فيما يروى عن ربِّه تعالى: «ابن آدم إِنك ما دعوتنى ورجوتنى غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالى».
فالرّجاءُ عبوديّة وتعلق بالله من حيث اسمه البرّ المحسن.
فذلك التعبد والتعلق بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الذي أوجب للعبد الرّجاء من حيث يدرى ومن حيث لا يدرى.
فقوّة الرّجاءِ على حسب قوّة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته على غضبه.
ولولا رُوح الرّجاءِ لعطِّلت عبوديّة القلب والجوارح، وهُدّمت صوامِعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.
بل لولا روح الرّجاءِ لما تحرّكت الجوارح بالطّاعة، ولولا رِيحه الطِّيبة لما جرت سُفُن الأعمال في بحر الإِرادات، قال بعض مشايخنا:
لولا التعلُّق بالرجاءِ تقطّعت ** نفسُ المحبّ تحسُّرا وتمزُّقا

وكذلك لولا برْدهُ لحرارة الْـ ** أكباد ذابت بالحجاب تحرّقا

أيكون قطُّ حليفُ لا يُرى ** برجائه لحبيبه متعلِّقا

أم كلّما قويت محبّته له ** قوى الرّجاءُ فزاد فيه تشوّقا

لولا الرّجا يحدو المطىّ لما سرت ** بحُمولها لديارهم ترجو اللّقا

وعلى حسب المحبّة وقوّتها يكون الرّجاءُ.
وكلُّ محبٍّ راج وخائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون بحيبيه أحبّ ما كان إِليه.
وكذلك خوفه فإِنّه يخاف سقوطه من عينه وطرد محبوبه له وإِبعاده واحتجابه عنه.
فخوفه أشدّ خوف.
فكلّ محبّة مصحوبة بالخوف والرّجاء، وعلى قدر تمكُّنها من قلب المحبِّ يشتدّ خوفه ورجاؤه.
ولكن خوف المحب لا يصحبه خشية بخلاف خوف المسيء، ورجاءُ المحبِّ لا يصحبه غاية بخلاف رجاء الأجير.
فأين رجاءُ المحبِّ من رجاء ِ الأجير؟! بينهما كما بين حاليهما.
وبالجملة فالرّجاءُ ضرورى للسّالك والعارف، ولو فارقه لحْظه لتلف أو كاد، فإِنّه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إِصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها أو دوامها، وقربٍ من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إِليها.
ولا ينفكُّ أحد من السّالكين من هذه الأُمور أو من بعضها.
والفرق بين الرّجاءِ والتّمنِّى أن التمنى يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طُرُق الجدّ والاجتهاد، والرّجاءُ يكون مع بذل الجهد وحسن التّوكُّل، ولهذا أجمع العارفون على أنّ الرّجاء لا يصحُّ إِلاّ مع العمل.
والرّجاءُ ثلاثة أنواع: نوعان محمودان، ونوعُ غُرورٍ مذموم.
فالأولان رجاءُ رجل عمل بطاعة الله على نور الله، فهو راجٍ لثوابه، ورجل أذنب ذنبا ثم تاب منه، فهو راج لمغفرته.
والثالث رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغُرور والتّمنِّى والرّجاءُ الكاذب.
وللسّالك نظران: نظر إِلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف، ونظر إِلى سعة فضل ربّه وكرمه وبرِّه يفتح عليه باب الرّجاءِ، (وهما كجناحى الطائر إِذا استويا استوى الطّائر وتمّ طيرانه).
واختلفوا أىّ الرّجاءين أكمل، رجاء المحسن ثواب إِحسانه، أو رجاء المذنب التائب عفو ربِّه وعظيم غفرانه؟ فطائفة رجّحت رجاء المحسن لقوّة أسباب الرّجاء معه.
وطائفة رجّحت رجاء المذنب، لأنّ رجاءه مجرّد عن علّة رؤية العمل، مقرون برؤية ذِلّة الذّنب.
قال يحيى بن مُعاذ: (إِلهى أحلى العطايا في قلبى رجاؤُك، وأعذب الكلام على لسانى ثناؤُك، وأحبُّ السّاعات إِلىّ ساعةٌ يكون فيها لقاؤُك).
وقال أيضا: (يكاد رجائى لك مع الذُّنُوب يغلب على رجائى لك مع الأعمال، لأنى أجدنى أعتمد في الأعمال على الإِخلاص، وكيف أُحرزها وأنا بالآفات معروف.
وأجدنى في الذنب أعتمد على عفوك. وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف).
فإِن قلت: ما تقول في قول من جعل الرّجاء من أضعف منازل المريدين؟ قلت: إِنما أرادوا بالنسبة إِلى ما فوقه من المنازل، كمنزلة المحبّة والمعرفة والإِخلاص والصِّدق والتّوكُّل والرِّضا، لا أن مرادهم ضعف هذه المنزلة في نفسها وأنها منزلة ناقصة.
فافهم، فقد أوضحنا لك أنّها من أجلِّ المنازل وأعلاها وأشرفها.
والله أعلم.
وقال بعض المفسِّرين: ورد الرّجاءُ في القرآن على ستّة أوجه:
أوّلها: بمعنى الخوف: {مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا}، أى ما لكم لا تخافون.
قال:
إِذا لسعته النّحل لم يرْجُ لسعها ** وخالفها في بيت نُوب عوامل

ومنه: {إِنّهُمْ كانُواْ لا يرْجُون حِسابا}، وقوله: {من كان يرْجُو لِقاء اللّهِ}.
الثانى: بمعنى الطمع: {ويرْجُون رحْمتهُ}.
{أُوْلائِك يرْجُون رحْمت اللّهِ}.
الثالث: بمعنى توقُّع الثواب: {يرْجُون تِجارة لّن تبُور}.
الرّابع: الرّجا المقصور بمعنى الطّرف: {والْملكُ على أرْجآئِهآ}.
الخامس: الرّجاء المهموز: {قالواْ أرْجِهْ وأخاهُ} أى احبسه.
السّادس: بمعنى التّرك والتأْخير: {تُرْجِي من تشاءُ مِنْهُنّ}: تؤخّره،
{وآخرُون مُرْجوْن لأمْرِ اللّهِ إِمّا يُعذِّبُهُمْ وإِمّا يتُوبُ عليْهِمْ}. اهـ.